فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {تلك الجنة}.
الإِشارة إِلى قوله: {فأولئك يدخلون الجنة}.
قوله تعالى: {نُورِث} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابن أبي عبلة: بفتح الواو وتشديد الراء.
قال المفسرون: ومعنى {نورث}: نعطي المساكن التي كانت لأهل النار- لو آمنوا للمؤمنين.
ويجوز أن يكون معنى {نورث}: نعطي، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف.
وقد شرحنا هذا في [الأعراف: 43].
قوله تعالى: {وما نتنزَّل إِلا بأمر ربِّك} وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: {وما يَتنزَّل} بياء مفتوحة.
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا»، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن الملَك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، فقال: لعلِّي أبطأتُ، قال: «قد فعلتَ»، قال: وما لي لا أفعل، وأنتم لا تتسوَّكون، ولا تقصُّون أظفاركم، ولا تُنَقُّون براجمكم. فنزلت الآية، قاله مجاهد.
قال ابن الأنباري: البراجم عند العرب: الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع، تبدو إِذا جُمعت، وتغمض إِذا بُسطت.
والرواجب: ما بين البراجم، بين كل برجمتين راجبة.
والثالث: أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيَه جبريل بجواب، فأبطأ عليه، فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقَّة شديدة، فلما نزل جبريل قال له: «أبطأتَ عليَّ حتى ساء ظني، واشتقتُ إِليك»، فقال جبريل: إِنِّي كنتُ أَشْوَق، ولكنِّي عبدٌ مأمور، إِذا بُعثتُ نزلتُ، وإِذا حُبستُ احتبستُ. فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك.
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان:
أحدهما: لامتناع أصحابه من كمال النظافة، كما ذكرنا في حديث مجاهد.
والثاني: لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف، فقال: «غدًا أُخبركم»، ولم يقل: إِن شاء الله؛ وقد سبق هذا في سورة [الكهف: 24].
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال.
أحدها: خمسة عشر يومًا؛ وقد ذكرناه في (الكهف) عن ابن عباس.
والثاني: أربعون يومًا، قاله عكرمة، ومقاتل.
والثالث: اثنتا عشرة ليلة، قاله مجاهد.
والرابع: ثلاثة أيام، حكاه مقاتل.
والخامس: خمسة وعشرون يومًا، حكاه الثعلبي.
وقيل: إِن سورة (الضحى) نزلت في هذا السبب.
والمفسرون على أن قوله: {وما نتنزل إِلا بأمر ربِّك} قول جبريل.
وحكى الماوردي: أنه قول أهل الجنة إِذا دخلوها، فالمعنى: ما ننزل هذه الجنان إِلا بأمر الله.
وقيل: ما ننزل موضعًا من الجنة إِلا بأمر الله.
وفي قوله: {ما بين أيدينا وما خلفنا} قولان:
أحدهما: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا: الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: ما بين أيدينا: ما مضى من الدنيا، وما خلفنا: من الآخرة، فهو عكس الأول، قاله مجاهد.
وقال الأخفش: ما بين أيدينا: قبل أن نُخلَق، وما خلفنا: بعد الفناء.
وفي قوله تعالى: {وما بين ذلك} ثلاثة أقوال.
أحدها: ما بين الدنيا والآخرة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: ما بين النفختين، قاله مجاهد، وعكرمة، وأبو العالية.
والثالث: حين كوَّنَنا، قاله الأخفش.
قال ابن الأنباري: وإِنما وحَّد ذلك، والإِشارة إِلى شيئين.
أحدهما: {ما بين أيدينا}.
والثاني: {ما خلفنا}، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع.
قوله تعالى: {وما كان ربك نَسِيًّا} النَّسِيُّ، بمعنى الناسي.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: ما كان تاركًا لك منذ أبطأ الوحي عنك، قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك.
والثاني: أنه عالم بما كان ويكون، لا ينسى شيئًا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {فاعبُده} أي: وحّده، لأن عبادته بالشِّرك ليست عبادة، {واصطبر لعبادته} أي: اصبر على توحيده؛ وقيل: على أمره ونهيه.
قوله تعالى: {هل تعلم له سميًّا} روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم {هل تعلم}، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأن آخر مخرج من اللام وقريب من مخارجهن.
قال أبو عبيدة: إِذا كان بعد {هل} تاء، ففيه لغتان، بعضهم يُبين لام {هل}، وبعضهم يدغمها.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.
أحدها: مِثْلًا وشبهًا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: هل تعلم أحدًا يسمّى {اللهَ} غيرُه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: هل تعلم أحدًا يستحق أن يقال له: خالق وقادر، إِلا هو، قاله الزجاج. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي}.
أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها {نُورِثُ} بالتخفيف.
وقرأ يعقوب {نُوَرِّثُ} بفتح الواو وتشديد الراء.
والاختيار التخفيف؛ لقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب}.
{مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} قال ابن عباس: أي من اتقاني وعمل بطاعتي.
وقيل: هو على التقديم والتأخير، تقديره: نورث من كان تقيًا من عبادنا.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما منعك أن تزورنا أكثر مِما تزورنا» قال: فنزلت هذه الآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب.
ورواه البخاري: حدّثنا خلاد بن يحيى حدّثنا عمر بن ذرّ قال: سمعت أبي يحدّث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}» الآية؛ قال: كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، فقال: «ما الذي أبطأك» قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، ولا تُنَقُّون رَوَاجِبَكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا. وقال مجاهد أيضًا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي: احتبس جبريل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوا عنه؛ قال عكرمة: فأبطأ عليه أربعين يومًا.
وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة.
وقيل: خمسة عشر يومًا؛ وقيل: ثلاثة عشر.
وقيل: ثلاثة أيام.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبطأت عليّ حتى ساء ظني واشتقت إليك» فقال جبريل عليه السلام: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حُبست احتبست.، فنزلت الآية: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} وأنزل {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1 3].
ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم.
وقيل: هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها: وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك.
وعلى هذا تكون الآية متصلة بما قبل.
وعلى ما ذكرنا من الأقوال قيل: تكون غير متصلة بما قبلها، والقرآن سور، ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ} أي قال الله تعالى: قل يا جبريل {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نَزَلنا عليك.
الثاني: إذا أمرك ربك نزّلنا عليك، فيكون الأمر على (الوجه) الأوّل متوجهًا إلى النزول، وعلى الوجه الثاني متوجهًا إلى التنزيل.
وقوله تعالى: {لَهُ} أي لله. {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أي علم ما بين أيدينا {وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} البرزخ.
وقال قتادة ومقاتل: {له ما بين أيدينا} من أمر الآخرة {وما خلفنا} ما مضى من الدنيا {وما بين ذلك} ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة.
الأخفش: {ما بين أيدينا} ما كان قبل أن نخلق {وما خلفنا} ما يكون بعد أن نموت {وما بين ذلك} ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت.
وقيل: {ما بين أيدينا} من الثواب والعقاب وأمور الآخرة. {وما خلفنا} ما مضى من أعمالنا في الدنيا {وما بين ذلك} أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة.
ويحتمل خامسًا: {ما بين أيدينا} السماء {وما خلفنا} الأرض {وما بين ذلك} أي ما بين السماء والأرض.
وقال ابن عباس في رواية: {له ما بين أيدينا} يريد الدنيا إلى الأرض {وما خلفنا} يريد السموات وهذا على عكس ما قبله {وما بين ذلك} يريد الهواء؛ ذكر الأوّل الماوردي والثاني القشيريّ.
الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها.
ولم يقل: ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا؛ كما قال: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أي بين ما ذكرنا.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي ناسيًا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل.
وقيل: المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي.
وقيل: المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها، ولا ينسى شيئًا منها.
قوله تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان.
{فاعبده} أي وحِّده لذلك.
وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى؛ كما يقوله أهل الحق، وهو القول الحق؛ لأن الرب في هذا الموضع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك، وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض، دخل في ذلك اكتساب الخلق، ووجبت عبادته؛ لما ثبت أنه المالك على الإطلاق، وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع، ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود.
{واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك، بل اشتغل بما أمرت به.
وأصل اصطبر اصتبر، فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما، فأبدل من التاء طاء؛ كما تقول من الصوم: اصطام {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال ابن عباس: يريد هل تعلم له ولدًا أو نظيرًا؛ أو مثلًا؛ أو شبيهًا يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن. وقاله مجاهد. مأخوذ من المساماة.
وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: هل تعلم أحدًا سمي الرحمن.
قال النحاس: وهذا أجلّ إسناد علمته روي في هذا الحرف، وهو قول صحيح؛ لا يقال الرحمن إلا لله.
قلت: وقد مضى هذا مبينًا في البسملة. والحمد لله. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {هل تعلم له سمِيا} قال: مثلًا. ابن المسيب: عدلًا. قتادة والكلبي: هل تعلم أحدًا يسمي الله تعالى غير الله، أو يقال له الله إلا الله. و{هل} بمعنى لا؛ أي لا تعلم. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقرأ الجمهور: {نورث} مضارع أورث، والأعمش {نورثها} بإبراز الضمير العائد على الموصول، والحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الواو وتشديد الراء.
والتوريث استعارة أي تبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث، والأتقياء يلقون ربهم قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى.
وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
{وما نتنزل إلاّ بأمر ربك} أبطأ جبريل عن الرسول مرة، فلما جاء قال: «يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا»؟ فنزلت.
وقال مجاهد والضحاك: سببها أن جبريل عليه السلام تأخر في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف وهي كالتي في الضحى، وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل، تقول: نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم: تعدى الشيء وعداه ولا يكون مطاوعًا فيكون تنزل في معنى نزل.